كانت أمها بالمطبخ تعد وجبة الغداء، بينما كنت بغرفة نومنا أطالع صحيفة مليئة بأخبار الحروب والدمار والسياسات العقيمة... حين جاء صوتها مجلجلا بجرس طفولي عذب ليقطع الصمت المطبق على منزلنا في تلك اللحظات:
(... نجحت يا ماما.. نجحت يا بابا..)..
إنها "ميسون" عادت لتوها من المدرسة.. تحمل البشارات.. وتزغرد دواخلها.. ابنة الصف الأول.. بـ"مريولها" الأزرق.. تنوء بحمل حقيبتها المدرسية.. تدلف إلى المطبخ.. ليصلني صوتها ( نجحت يا ماما!!).
انساب الفرح في دواخلي.. وألقيت الصحيفة على وجهي.. واستسلمت للخدر اللذيذ.. وكمن يتناول شيئا أثيرا بجانبه، امتطيت صهوة الخيال واسترجعت شريط الذكريات الجميلة في ثوان معدودات:
ما زلت أذكر ذلك النهار الرمضاني والمستشفى الحكومي يغوص في بحيرة من السكون.. جئت ممسكا بيد زوجتي.. وقد انتفخ بطنها.. تمشي الهوينى "كما يمشي الوجي الوحل" كنت أصارع الخوف متشبثا بالأمل، بعد أن أسر لي الطبيب بالأمس ضرورة إجراء عملية قيصرية عاجلة.. دخلنا المستشفى.. وفي لحظات كنت أوقع على استمارة، أعلن فيها موافقتي على إجراء العملية القيصرية.. ماجت صالة الطوارئ.. والطاقم الطبي يتحرك بخفة.. زوجتي ممددة على سرير ذي عجلات ترمقني من بعيد.. وقد أحاط بها الأطباء وسرب الممرضات من كل ناحية.. غرسوا في جسدها أنبوب المحلول.. ووضعوا على فمها مقياس الحرارة.. وممرضة تلف على ذراعها بقوة شريطا ضاغطا لقياس الضغط.. نظراتها من بعيد تشق الصفوف لتصلني رسالتها: (أين أنت؟.. هيا تقدم لتنقذني قبل أن يعملوا فيّ أدواتهم ومشارطهم..) كان بطنها يعلو ويهبط.. وكنت أحاول أن أكون رجلا، بينما داخلي طفل يئن.. ويتعذب ويبكي بحرقة.. كنت أتحاشى نظراتها متظاهرا بالحديث مع طبيب.. وفجأة تدفع ممرضتان السرير وعليه زوجتي نحو غرفة العمليات، وقد وضعت يدا على بطنها.. وأخرى على قلبها.. مغمضة عينيها هربا من الواقع الأليم.. شعرت أنها أخذت قلبي معها.. وبقيت متسمرا في مكاني.. أتوشح الحزن واغتسل بالأمل.. حتى داهمتني ممرضة بعربية ركيكة: (كلاس أنت في روح).. رمقتها بنظرة وأنا أتمتم في سري:
" كيف أروح ..!! وقد أخذتم توأم الروح" ؟.. زرعت الصالة الطويلة جيئة وذهابا.. ولا أدري كم شوطا قطعت.. لكني أذكر إني كنت رهين هواجسي السوداء.. أحدث نفسي: ترى ستعودين يا حياتي.. وتعود نضرة أيامنا ؟؟.. كم أنت عظيمة يا حبيبتي .. حتى في لحظات الألم تبتسمين.. وتتمتمين: "سوف أهديك طفلا وسيما يملأ بيتنا سعادة".. يا لتلك المرأة.. هذا المخلوق الضعيف.. حين تحب.. تحب بعمق واشتهاء.. ولا يمنعها شيء من أن تهديك بعض ـ أو كل ـ حياتها.. حين تلتمس فيك صدقا وحبا.. شعرت بخدر في قدميّ.. حينها وجدت كرسيا خشبيا بجانب مدخل غرفة العمليات.. رميت جسدي المتهالك عليه وأسندت رأسي على الجدار.. حدثت نفسي ماذا لو تناولت كوبا من الشاي الدافئ أو كوب عصير.. من "بوفيه" المستشفى؟؟.. كم أنا بحاجة لشيء يعيد إليّ بعض توازني.. تذكرت أني صائم.. لجأت لله "سبحانك اللهم وبحمدك".. ومع كل حركة بجانبي كنت أرفع رأسي لأطالع الوجوه.. أقرأ تعبيراتها.. علها تقول شيئا.. ثم أعود من جديد للاسترخاء وأرمي برأسي على الجدار.. لا أدري كم مضى من الوقت.. حتى سمعت صوت تلك الممرضة وهي تدفع الباب.. وقد ارتسمت على فمها الصغير ابتسامة بعرض الدنيا: (مبروك.. بنت..!!).. شعرت أن أحدهم دلق علي ماء باردا.. ارتخت أعضائي.. وتسمرت في مكاني.. كانت نظراتي تلتهم تلك الممرضة.. في محاولة صادقة لاستقراء ما بدواخلها.. كيف حال زوجتي ؟؟.. ألا تزال حية ترزق؟.. هل يمكنني الدخول.. لأطمئن عليها.. كانت الممرضة كتمثال برونزي بعد أن هالها وجومي.. وراحت ترمقني بنظرة مليئة بالشفقة.. كم وددت ـ حين زغردت دواخلي ـ أن أنتصب واقفا واحتضن تلك الممرضة.. لأرتاح على كتفيها.. ولكني بقيت كأحد تلك المسامير المثبتة على ذلك الكرسي.. حتى تركتني ودلفت داخلة.. أخذت نفسا عميقا.. حمدت الله في سري.. نهضت.. شعرت ببعض الدوار.. هززت رأسي.. تساقطت أحزاني كأوراق الشتاء.. وبقدرة الله.. انتظمني نشاط ما عهدته.. رحت أزرع الصالة جيئة وذهابا.. زغاريد بالنفس.. حالة من انتشاء.. أطالع وجوه المارة.. لا أحد يهتم.. خرجت من المستشفى مهرولا لأشتري الحلوى والزهور قبل موعد الزيارة.. كنت أتأمل نفسي بخبث.. وأنا أحمل (البامبرز) وأقول للناس في سري: (ها.. انظروا لقد أصبحت أبا)!!.. قطعت الدرج للطابق العلوي في خطوتين.. أو هكذا خيل إلي.. سألت الممرضة عن رقم الغرفة التي تحل بها زوجتي قالت: أي غرفة؟.. إنها لا تزال في العناية الفائقة، وسنمنحك خمس دقائق فقط لتطمئن عليها.. دخلت.. وقلبي يكاد ينفطر.. رأيتها في حالة يرثى لها لست أدري إن كانت نائمة.. أو فاقدة لوعيها..دنوت منها لأتأكد أنها تتنفس!! وحمدت الله.. كانت وديعة.. وقد تلاشى ذلك البطن المنتفخ.. جلست بجوارها.. وممرضة تشاركنا الغرفة ترمقني بين الفينة والأخرى من على مكتبها.. طالعت وجه زوجتي.. فإذا بها تتنفس ببطء.. وحبات من عرق على جبينها فمددت كفا مرتعشة ومسحتها بلطف.. كانت يدها اليمنى تتدلى بجانب السرير، بينما استسلمت الأخرى لأنبوب المحلول الوريدي.. دنوت منها أكثر.. حتى صرت قاب قوسين أو أدنى.. وانتهزت فرصة انشغال الممرضة بمكالمة هاتفية.. وقد أدارت لنا ظهرها.. فطبعت على جبين زوجتي قبلة حانية.. ففتحت عينيها بإجهاد بالغ وتمتمت بكلمات لم أتبين منها سوى: (.. كيف صحتك؟)!! ثم أغمضت عينيها مرة أخرى.. وراحت في سبات عميق.. سالت دمعة حارة على خدي.. حتى في هذه اللحظات المشوبة بالألم تهمك صحتي؟؟ ماذا فعلت.. ؟ وهل أستحق منك كل هذا الاهتمام.. ألا يكفي أنك صارعت الموت لتهديني طفلة؟؟.. كان صوت الممرضة صارما هذه المرة وهي تحدثني بإنجليزية حادة، أن انتهى الوقت المحدد للزيارة.. وعليّ مغادرة الغرفة فورا.. وبالفعل غادرت "العناية" متوجها "للحضانة" فقد كان بي شوق جارف لرؤية ابنتي وباكورة إنتاجي.. يا ترى كيف شكلها؟ وكيف تكون.. ؟ ومن خلال نافذة زجاجية شاهدت حوالي عشر حاضنات وفي داخل كل واحدة يقبع مولود في هدوء يسبح عظمة الخالق.. ترى أيهم ابنتي؟ وقد تشابهوا جميعا كالعصافير الحالمة.. دنوت أكثر حتى التصق وجهي بالنافذة.. وسألت عنها تلك الممرضة الأجنبية البدينة التي كانت مشغولة بالتهام وجبتها.. رغم نهارنا الرمضاني!! وأشارت دون أن تتكلم إلى أنها الثالثة من اليمين.. حينها تسمرت نظراتي في (الثالثة من اليمين) لم أتبين شيئا غير كومة من اللحم الندي تتقوقع داخل الإناء الزجاجي.. وبعد برهة خرجت من المستشفى.. وأنا أحمل في أعماقي فرحا لو وزع على الناس، ما سادهم حزن أبدا. وفي اليوم التالي، وعند موعد الزيارة جئت راكضا وإذا بزوجتي في غرفة أخرى.. وقد عادت إليها الحياة وبعض من ألقها وإشراقها.. وبجانبها ترقد صغيرتي وقرة عيني "ميسون".. حلم شهي تحقق بحمد الله.. كانت بلون وردي زاه.. وعينان كساهما السحر.. وفم دقيق.. وأنامل رخصة بضة.. ووجه كحديث الأحباء جميل.. كنت في صراع.. بأي منهما أبدأ.. سحبت الستارة التي تدلت حول السرير.. وطبعت على جبين زوجتي قبلة أنستني عذابات السنين.. ودنوت من ابنتي "ميسون" وحملتها بين ذراعيّ وقربتها من صدري.. خفقات قلبها الصغير تسافر إلى روحي بلا وساطة.. تمتزج بخفقات قلبي لتكون إيقاعا أرقص طربا عليه.. قربت فمها الصغير من فمي.. واحتويتها في حنان.. امتزجنا.. صرنا ينبوعا واحدا.. زوجتي ترمقني خائفة أن تسقط الصغيرة أو تتسلل من بين أصابعي... (أرجوك.. لا تضمها بقوة.. ستموت بين ذراعيك..) ضحكت بخبث.. !!
تحركت الجريدة من على وجهي.. استحالت أخبارها إلى كرنفالات من فرح.. وصوت "ميسون" يجلجل بجرس طفولي عذب قادما من ناحية المطبخ.. وخلفها أمها: (.. نجحت يا بابا.. بتقدير ممتاز..)..
انتصبت واقفا.. تأملتها للحظات.. بـ"مريولها" الأزرق.. وحقيبتها المدرسية.. ابنة الصف الأول.. احتضنتها بقوة.. وقبلتها بعمق..
وأمها من خلفها ترسل نظراتها الخائفة:
(أرجوك.. لا تضمها بقوة... ستموت بين ذراعيك...)!!